هذى الروح تشتاق إليك ~

تتسارع خطواتها على الدرج , تقف فجأة وتنظر إلى أبيها تسأله بكل عفوية : ما رأيك بى هكذا ؟ "و تضع يدها تحت خدها وتبتسم ابتسامة بسيطة ويكأنه يلتقط إليها صورة فوتوغرافية ". تنفرج أساريره ويضحك ويقول : ملكة البيت انتى .. جميلة الجميلات .
تبتسم وتكمل صعودها فى مرحِ .
لا تتذكر أين كانا وقتها , ربما يقضيان أمر شىءِ .. ربما كانت معه فى زيارةٍ لأحد أقاربهم .. لا تعلم !
مجبولون نحن على النسيان , وتأبى الذاكرة أن تتذكر ~

هذا هو درج منزلها المكون من طابقين ; بالأسفل تقطن جدتها لأبيها , وبالطابق العلوى عائلتها البسيطة وذكرياتها التى لن تنساها .

بهذا الطابق ; حجرتها هى وأختها الكبرى وقريباً ستشرِف أختهما الصغرى , على جدرانها كُتبت أسماؤهما بخطيهما وبعض من رسوماتٍ لهما . وهناك سريرٌ بجواره تجلس أمهما تسرد لهما القصص والمغامرات قبل النومِ , وعلى باب تلك الحجرة كان يقف أباهما يلتقط لهما صوراً مضحكة ; يطلب أحياناً منهما أن تضحكا فى إحدى الصور لتظهر ابتسامتهما بلا أسنانٍ واللاتى قد غني لهم صباحاً :"يا شمس يا شموسة ", وأخرى وهم يحتفلون بـ يوم ميلادِ أمهما وكلتاهما تحمل بطاقةً مرسوم عليها بعض الزهور وقلوبٍ مخطوطاً عليها "كل سنة وانتى طيبة يا أمى ".
أما أرضية الحجرة التى بالكاد تظهر -وقد تبدو صغيرةً جداً الآن-  , كانت قد تُوسعهما وهما تجلسان ليحرران واجباً منزلياً أو تعدان الزينة فى أيام الأعيادِ , لم تكن تعلم أن هذه الأرض ستصبح حاضنةً لآلام أمها وأوجاعها فى ظلماتِ الليل والكل نيام ! هنا..
 لم تكن تعلم أنها بعد أيامٍ معدوداتٍ ستقف بجانب أبيها على باب حجرتها هذه , يدعوان اللهَ بسلامةِ امها وأن تقر أعينهما باختها الصغرى التى ستغدو دميتها المفضلة فيما بعد ~
هنا وقفت تربت على كتفى أبيها وتمسح عبراته المنهالة على وجنتيه رغم صغر حجمها وضعف يديها ~

بجانب حجرتها كانت حجرة أبيها وأمها , كل ما تتذكره بشأنها أنها كانت تحب ذاك المكان الصغير بين أثاثها لتختبىء فيه عندما تلاعبها أمها لعبتها المفضلة "الغوميضة" .

أما عن غرفة المعيشة تلك ;  فـ كانت هى وأختها الكبرى تنتهزان فرصة نوم أبيهما وأمهما لتجمعان كل مقاعد البيت لتبنيان بهم شُرفتين تقف كل منهما على واحدة ويتداولان الأخبار والأكلات المرتجلة لتوها- كما يفعل الجيران- وفى النهاية تسلمان على بعضهما ويتواعدان باللقاء غداً وأنهما ستظلان خيرَ جيرةٍ فى هذا الحى على مرِ الزمن ~ 

أما عن تلك الصورة فـ هى فـى صالة البيتِ ; حيث الانتظار لـ ضيفٍ قادمٍ إليهم , وحيث تستقبلهم الأم بأحضانها عند عودتهم , وحيث يجلس أخيها ليلعبَ بـ دُمياه الكثيرة .. وهنا الكثير من الذكريات !
كانت تلك الصورة بالكبيرة جداً فى أعينهم جميعاً ; تتذكر انهم مراراً وقفوا أمامها ; منهم من طلبت من أمهم أن تحملها لتلمسها , ظانة بذلك أنها ستلمس أوراق أشجارها ! منهم من قالت أنها تحلم بالعيش فى مكانٍ كـ هذا حيث الهدوء وصوت العصافير! ومنهم من اكتفى بالسؤال عمن وضعها هنا على الحائط !
كل ما فى الأمر أنها كانت تبدو كبيرة حقاً لماذا تبدو الآن بهذا الصغر ؟! أم هى أعينهم التى اتسعت لترى من الدنيا الكثير وأجسادهم التى ازدادت طولاً وأصبحت تلامسها بالإيد مباشرةً دون أن تضطر أمهم لحملهم كما تعودوا ! 

  أتصغر الذكريات فـ أعيننا وتتلاشى صورتها أم تكثُر فـ عقولِنا فتخدعنا وننساها !

اليوم هُد هذا المكان وتحطمت أركانه لكن تبقى الذكرى قائمة أعمدتها لا تُحطم ولا تًخدش ~
قال لى أحدهم ذات يومٍ الذكرى ربما تتلاشى صورتها ولكن سرعان ما تعود بـ استدعاء أو بدونٍ طالما اهتز القلب لها فرحاً أو ألماً !
هنا حجارة البناية مهدومة ومتراكمة ولاتدرى أنها فى القلبِ متراكمة الذكرى أيضاً لكن هذا التراكم قوىٌ بنيانهِ; يبنى سوراً من الماضى نتكأ عليه حينما يجرحنا حاضرنا أو يخذلنا ~

كانت أيام بلا حسبان لأى شىء ولا تفكير فى أى فقد أو وجع ,
أما اليوم فالعكس تماماً !

تبدو الصور رغم حطامها بلا خوفٍ !
 ولم لا , فالقلب لا يحمل أى شعور كهذا هنا !

تتساءل فى عجبٍ , أتصنع الأماكن ذكرياتنا أم نحن صانعيها ؟!
أهذا القلق الذى يتغمدها صنعه المكان أم هى من صنعته ؟!

لمَ لم تتوقف عقارب الزمن عند تلك اللحظات البسيطة جداً ولا يمر الوقت من بعدها , فـ تظل تنعم بتلك البراءة الطفولية التى عهدها الصغار فلا تعبأ بـ شىءٍ !

رحم اللهُ ذكرياتٍ لن تُنسى .. وجدارنٍ فى القلبِ لن تُهدم ~

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قولبت قالبها

ذكرى تأبى الاحتراق